الثلاثاء، 10 أبريل 2012

خيرت الشاطر... جمال مبارك مُلتحياً!

خيرت الشاطر... جمال مبارك مُلتحياً! 


كل من مبارك والشاطر رجل أعمال من الطراز النيوليبرالي(أرشيف) 


ناهض حتر 
اشتهر جمال حسني مبارك بملف توريث رئاسة الجمهورية. لكن الوريث الفعلي هو مرشح النهج النيوليبرالي ومجتمع رجال الأعمال الجُدد الطامحين إلى احتكار السلطة السياسية من خلال استخدام آليات النظام القائم باتجاه التوريث. قبل انتفاضة 25 يناير التي أطاحت النخبة المباركية، كان «الحرس القديم» وقادة الجيش، يناوئون خيار التوريث، ليس من موقع الرفض المبدئي لهذا الخيار الملكي، ولكن من موقع السعي إلى الحفاظ على امتيازاتهم التقليدية في مواجهة رئيس محتمل ارتبط تكوينه وفكره بمجتمع رجال الأعمال بالذات.
جدل التوريث داخل النظام المصري كان يدور حول هذا السؤال: ما الذي يبقى للجيش في دولة البزنس؟
السؤال ظلّ قائماً ومحورياً رغم «الثورة» التي لم تزحزح سيطرة فريقي النَّظْمة الحاكمة، قادة الجيش وأساطين المال والأعمال، بحيث إننا نستطيع تجاهل ركام التفاصيل والهوامش المصرية خلال الفترة «الثورية»، بكونها مفاوضات ساخنة _ والآن، منافسة انتخابية حادة على موقع الرئيس _ بين «المجلس الأعلى للقوات المسلحة» المتحرر من هيمنة مبارك، وبين مجتمع رجال الأعمال المتحرر من خيار التوريث، وتمثّله، طبقياً، قيادات الإخوان المسلمين. لقد كان مدير الاستخبارات المصرية الأسبق، عمر سليمان، مرشح العسكر الضمني ضد جمال مبارك، وها هو اليوم مرشحهم العلني ضد خيرت الشاطر. فما الذي تغيّر بعد 25 يناير، سوى أن «الإخوان» الناجين، مع مصر، من مذلة التوريث البيولوجي، حسموا قرارهم وراء التوريث الطبقي، أي وراء مشروع جمال مبارك نفسه، ولكن بلحية واسم حركي.
ما هي الفوارق الطبقية بين جمال وخيرت؟
كلاهما رجل مال وأعمال من الطراز الجديد النيوليبرالي الذي لم يعد يوجد سواه في الأنظمة الاقتصادية المسيطرة القائمة على ما يسميه سمير أمين بـ«الأمولة»، وترجمتها، في عالم الأعمال، الشركات القابضة التي توظف رأسمالاً مالياً في نشاطات واستثمارات متعددة، بالشراكة أو عبر السوق المالية.
وكلاهما، جمال وخيرت، كوّنا إمبراطوريتهما المالية عبر شبكة دعم سياسية؛ الأول مستخدماً نفوذ النظام وعلاقاته الإقليمية والدولية، والثاني مستخدماً نفوذ «الإخوان» وعلاقاتهم وشبكاتهم المتعدية للقُطرية.
خيرت، كإسلامي ملتزم، له أيادٍ بيض من الأعمال الخيرية وكفالة الأسر إلخ، وجمال مثله، لكنه _ كنيوليبرالي صريح _ يسميها «المسؤولية الاجتماعية للشركات» التي ظهرت، كمفهوم وممارسة، لمعالجة نتائج النيوليبرالية الحتمية من انتشار البطالة والفقر المدقع والتهميش.
كان جمال وشركاؤه، بالطبع، يحتكرون، بقوّة السلطة، الأعمال الكبيرة أو يفرضون حصصهم على شركاتها. ولا ريب أن هذه الممارسة السلطوية أضرّت بتوسع وفعالية الطبقة البورجوازية الكمبرادورية (كمبرادورية لأن نشاطاتها وثرواتها مرهونة بوكالة الرأسمال المعولَم من موقع التبعية). وقد تؤدي القيادة الإخوانية للكمبرادور، هنا، دوراً في تفكيك الاحتكارية المباركية، وتسمح بقدر من المنافسة بين رجال الأعمال، وخصوصاً من المستويات الأدنى. وسيكون، لذلك، كما يمكننا أن نتوقع نظرياً، نتائج إيجابية على النمو الكليّ للاقتصاد المصري، وتوزيع أكثر تنافسية داخل مجتمع الأعمال الذي سيتوسع ليشمل عناصر متزايدة من البورجوازية المتوسطة والصغيرة.
غير أن هذا الاتجاه التنافسيّ والتوسعي ليس مضموناً مع هيمنة إخوانية شاملة على مفاصل السلطات، تشغّل آليات احتكار حزبية وبالكثير... إسلاموية. والأرجح أن نمط الاحتكارية والتواطؤ والزبائنية سيستمر، وإنْ لدى فئات جديدة، بحيث نكون أمام آليات أسلمة النخب الاقتصادية، وليس آليات إطلاقها من القيود التي تعرقل توسعها.
أربعة عوامل أساسية تتحكم بمسار الانتقال من كمبرادورية احتكارية سلطوية إلى كمبرادورية تنافسية وموسّعة على النموذج التركي، وهي: التعددية السياسية والحريات، والحد من سلطة وامتيازات المؤسسة العسكرية، والاستقلالية، والدولة المدنية. ونلاحظ، بصدد النموذج المصري الممكن، ما يأتي: أولاً، إن التعددية السياسية _ بمعناها الفعلي _ مهددة بسيطرة انتخابية محكمة للإخوان والسلفيين والجماعات الإسلامية، وهو ما يخلق مناخاً شاملاً لا يعوق التعددية السياسية فقط، بل، أيضاً، التعددية الاجتماعية والثقافية، ويعطّل الحريات، ويدفع فئات ناشطة إلى السكون أو الهجرة، ويقيّد المبادرات الاقتصادية للعناصر المستبعدة، سياسياً أو ثقافياً أو طائفياً. ثانياً، إن سلطة الجيش في مصر مضمونة من قبل الولايات المتحدة التي لا تزال لاعباً رئيسياً في مصر والمنطقة، بما هي _ تلك السلطة _ ضمانة للسلام مع إسرائيل ومنع الثورة الاجتماعية في الداخل. ولدى حسبان هذا العامل الاستراتيجي بالعلاقة مع الثقل الداخلي التقليدي للجيش المصري، نرى أن موازين القوى بين البورجوازية الكمبرادورية _ حتى في ثوبها الإخواني المدعوم حزبياً وانتخابياً _ وبين المؤسسة العسكرية، لا تسمح بلجم قيادات الجيش وامتيازاته المؤسسية أو تقليص حصته من الكعكة الاقتصادية، وهو ما سيظل يفرض أشكالاً من التشوّه الاقتصادي والاحتكار والضغوط على مجتمع الأعمال. ثالثاً، أظهر السلوك السياسي للإخوان المسلمين _ كما السلفيون _ ولاءهم الامتثالي لثوابت النظامين، الدولي والإقليمي المسيطرين، وذلك من خلال تأكيد العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة والغرب، وعلى معاهدة السلام مع إسرائيل، ولكن الأهم من خلال العلاقات المتشابكة _ والدونية _ مع السعودية وقطر. بل إن خيرت الشاطر، رائد الاتصال والحوار مع الغرب وصاحب المقال الشهير منذ 2005 بعنوان «لا تخافونا»، لم يعلن ترشّحه إلا بعد أن ضمن له وفد إخواني إلى واشنطن، قبول اليمين الأميركي (الجمهوري جون ماكين) بمرشح إخواني للرئاسة المصرية، وبعد أن ضمن، شخصياً، مباركة قطر التي زارها للشأن نفسه. وهو ما يسمح بالقول إن الإخوان المسلمين لا يضمرون نزعة لسياسات استقلالية أو أو لنهج يستعيد مكانة مصر الإقليمية، ويسمح بالاستنتاج أيضاً أن الإسلام المصري يتجه لكي يتحول إلى وهابية صلدة. إن الاستقلالية النسبية _ واسترداد مكانة مصر _ شرطان لازمان للنمو السريع المتسع، غير الممكن من دون قدر من التنافسية الخارجية غير المقيّدة بالولاء الكامل للقوى الدولية والإقليمية، رابعاً، إن الدولة المدنية مهددة في مصر. فعلى خلفيّة تصاعد السيطرة الوهابية، يأتي إعلان الشاطر، مدوياً وقاطعاً، بتلخيص برنامجه في نقطة جوهرية هي تطبيق الشريعة في مصر. وهو ما يعني تقويض الدولة المدنية. وسيكون لذلك التوجه آثار اقتصادية مباشرة تتعلق بجملة من النشاطات مثل السياحة الدولية والإنتاج الفني والثقافي إلخ، لكن آثاره البعيدة المدى هي الأهمّ من حيث إنها تهدد وحدة المجتمع المصري وتهدد الأقباط بالتحول إلى مواطنين من الدرجة الثانية، وتضغط على الفئات المدنية وتلجمها، وتؤدي، في النهاية، إلى منع الاستقرار في البلاد، إلا بوسائل استبدادية، ما يعيد مصر إلى المربع الأول.
نلاحظ أن وضع تركيا، في كل من العوامل الأربعة الفائتة، مختلف نوعياً عن الوضع المصري. فالتعددية السياسية والحريات والاستقلالية النسبية والدولة المدنية، مصونة، دستورياً وواقعياً، في تركيا، ما سمح للإسلاميين بأداء دور قيادي في إطلاق التنافسية وتوسّع البرجوازية وتمكينها من لجم المؤسسة العسكرية. سنلاحظ، هنا، أن نزعة العثمنة لا تتناقض مع المصالح القومية التركية، بل تخدمها داخلياً (في مساعي الدمج الاجتماعي والإتني) وخارجياً (في مساعي التوسع السياسي والاقتصادي)، في حين أن النزعة الإسلاموية في مصر _ والعالم العربي _ تمثّل حساسية مناقضة للتوجه العروبي، ومن شأن نزعاتها الطائفية والمذهبية والوهابية، تفجير الاندماج الاجتماعي الوطني، كذلك فإنها لا تستطيع أن تتمثّل المصالح القومية والوطنية، بسبب تذيّلها التقليدي للرجعية الخليجية.
مع ذلك كله، فإننا لا نستبعد زيادة متوسطة في النمو وتوزيعاً أكثر تنافسية في صفوف البورجوازية الكمبرادورية المصرية بقيادة «الإخوان». لكن الجوهري يبقى، هنا، متعلقاً بالدور الاجتماعي للإسلام السياسي. وسيغدو احتمال تحقيق قدر، ولو محدوداً، من النجاح الاقتصادي المترافق مع إدارة خيرية للبطالة والفقر، علاجاً مؤقتاً للأزمة المصرية، يكفل تجديد هيمنة الإسلام السياسي لفترة قد تطول، ما لم تتجدد الموجة الثورية ضد النيوليبرالية.
لكن في الشروط المصرية الراهنة، حيث تسيطر الليبرالية السياسية على وعي النخب المصرية، بما فيها اليسارية، فإن المعركة الاجتماعية مع النيوليبرالية لا تبدو ممكنة على المدى القريب. وبذلك، يكون «الإسلام هو الحل» فعلاً للتوسع الكمبرادوري والتعايش الجماهيري البائس مع وحشية النيوليبرالية في مصر. فالكتلة السكانية المصرية الضخمة من المهمّشين، ستظلّ تشكّل خطراً على النظام المحلي وربما النظام الإقليمي، وما دام لا يمكن استيعاب القوى العاملة المصرية في وظائف وشروط عمل تكفل لهم الكرامة الإنسانية، إلا في ظل إطاحة النيوليبرالية لمصلحة مثلث الاستقلالية والتنمية الوطنية والديموقراطية الاجتماعية، فإن الإخوان المسلمين والسلفيين هم أكفأ مَن يدير المجتمعات المفقَرة المهمّشة من خلال تنظيم الأعمال الخيرية والتكافل على نطاق مقونن، بما يسمح بلجم الفئات الشعبية وضبطها سياسياً وأيديولوجياً. الثغرة في هذا الحل الإسلامي للتكيّف مع النيوليبرالية، هي أن الطبقة البورجوازية لن تستطيع تمويل هذا الحل من خلال مواردها الذاتية. هنا، تأتي فوائض الخليج المالية لتسدّ الثغرة، وتسهم في نجاح النموذج الخيري. وسيكون الثمن هو منع مصر من النهوض بدورها القومي وإلحاقها بالمركز الخليجي.
جماهير المفقرين المصريين اقترعوا للحل الخيري الإسلامي، وسيقترعون له لفترة قد تطول، ذلك أنهم على درجة من البؤس واليأس لا تسمح لهم بالانتظار لحصد ثمار برنامج تنموي وطني، ويفضّلون، واقعياً، المساعدة «الكريمة» العاجلة وربما مضاعفة فرص العمل في الخليج. وهكذا، فلا عزاء في مصر لليسار إلا إذا استعاد مجدداً البرنامج الوطني الاجتماعي كأولوية.